الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
{اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً وأتوني بأهلكم أجمعين}..كيف عرف يوسف أن رائحته سترد على أبيه بصره الكليل؟ ذلك مما علمه الله. والمفاجأة تصنع في كثير من الحالات فعل الخارقة.. وما لها لا تكون خارقة ويوسف نبي رسول ويعقوب نبي رسول؟ومنذ اللحظة نحن أمام مفاجأة في القصة بعد مفاجأة، حتى تنتهي مشاهدها المثيرة بتأويل رؤيا الصبي الصغير.{ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون}..ريح يوسف! كل شيء إلا هذا. فما يخطر على بال أحد أن يوسف بعد في الأحياء بعد هذا الأمد الطويل. وأن له ريحاً يشمها هذا الشيخ الكليل!إني لأجد ريح يوسف. لولا أن تقولوا شيخ خرف: {لولا أن تفندون}.. لصدقتم معي ما أجده من ريح الغائب البعيد.كيف وجد يعقوب ريح يوسف منذ أن فصلت العير. ومن أين فصلت؟ يقول بعض المفسرين: إنها منذ فصلت من مصر، وأنه شم رائحة القميص من هذا المدى البعيد. ولكن هذا لا دلالة عليه. فربما كان المقصود لما فصلت العير عند مفارق الطرق في أرض كنعان، واتجهت إلى محلة يعقوب على مدى محدود.ونحن بهذا لا ننكر أن خارقة من الخوارق يمكن أن تقع لنبي كيعقوب من ناحية نبي كيوسف. كل ما هنالك أننا نحب أن نقف عند حدود مدلول النص القرآني أو رواية ذات سند صحيح. وفي هذا لم ترد رواية ذات سند صحيح. ودلالة النص لا تعطي هذا المدى الذي يريده المفسرون!ولكن المحيطين بيعقوب لم يكن لهم ما له عند ربه، فلم يجدوا ما وجد من رائحة يوسف:{قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم}..في ضلالك بيوسف، وضلالك بانتظاره وقد ذهب مذهب الذي لا يعود.ولكن المفاجأة البعيدة تقع، وتتبعها مفاجأة أخرى:{فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً}..مفاجأة القميص. وهو دليل على يوسف وقرب لقياه. ومفاجأة ارتداد البصر بعد ما ابيضت عيناه.. وهنا يذكر يعقوب حقيقة ما يعلمه من ربه. تلك التي حدثهم بها من قبل فلم يفهموه:{قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون}..{قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين}..ونلمح هنا أن في قلب يعقوب شيئاً من بنيه، وأنه لم يصف لهم بعد، وإن كان يعدهم باستغفار الله لهم بعد أن يصفو ويسكن ويستريح:{قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم}.وحكاية عبارته بكلمة {سوف} لا تخلو من إشارة إلى قلب إنساني مكلوم..ويمضي السياق في مفاجات القصة. فيطوي الزمان والمكان، لنلتقي في المشهد النهائي المؤثر المثير:{فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم}..ويا له من مشهد! بعد كر الأعوام وانقضاء الأيام. وبعد اليأس والقنوط. وبعد الألم والضيق. وبعد الامتحان والابتلاء. وبعد الشوق المضني والحزن الكامد واللهف الظامئ الشديد.يا له من مشهد ختامي بالانفعال والخفقات والفرح والدموع!ويا له من مشهد ختامي موصول بمطلع القصة: ذلك في ضمير الغيب وهذا في واقع الحياة. ويوسف بين هذا كله يذكر الله ولا ينساه:{فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين}..ويذكر رؤياه ويرى تأويلها بين يديه في سجود إخوته له وقد رفع أبويه على السرير الذي يجلس عليه كما رأى الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين:{ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً}..ثم يذكر نعمة الله عليه:{وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي}..ويذكر لطف الله في تدبيره لتحقيق مشيئته:{إن ربي لطيف لما يشاء}..يحقق مشيئته بلطف ودقة خفية لا يحسها الناس ولا يشعرون بها:{إنه هو العليم الحكيم}..ذات التعبير الذي قاله يعقوب وهو يقص عليه رؤياه في مطلع القصة:{إن ربك عليم حكيم}..ليتوافق البدء والختام حتى في العبارات.وقبل أن يسدل الستار على المشهد الأخير المثير، نشهد يوسف ينزع نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج والجاه والسلطان، والرغد والأمان.ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر! كل دعوته وهو في أبهة السلطان، وفي فرحة تحقيق الأحلام أن يتوفاه ربه مسلماً وأن يلحقه بالصالحين:{رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}..{رب قد آتيتني من الملك}..آتيتني منه سلطانه ومكانه وجاهه وماله. فذلك من نعمة الدنيا.{وعلمتني من تأويل الأحاديث}..بإدراك مآلاتها وتعبير رؤاها. فذلك من نعمة العلم.نعمتك يا ربي أذكرها وأعددها..{فاطرَ السماوات والأرض}..بكلمتك خلقتها وبيدك أمرها، ولك القدرة عليها وعلى أهلها..{أنت وليي في الدنيا والآخرة}..فأنت الناصر والمعين.رب تلك نعمتك. وهذه قدرتك.رب إني لا أسألك سلطاناً ولا صحة ولا مالاً. رب إني أسألك ما هو أبقى وأغنى:{توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}.وهكذا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان. ويبدو المشهد الأخير مشهد عبد فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه، وأن يلحقه بالصالحين بين يديه.إنه النجاح المطلق في الامتحان الأخير..
|